الحلقة الحادية عشرة
قضى خميس ليلته في ألم شديد سببه الصداع وارتفاع درجة الحرارة، ولم تكن ليلته لتخلو من الأحلام التي دارت كلها تقريباً عن الانتخاب، فتارة يرى عشرات الصناديق الفارغة التي تمتلئ بلمحة عين، وتارة يرى عدد الأوراق الموافقة خمسة أضعاف سكان القرية؟
ومرة يرى عبد الحميد وقد تخشب جسمه وامتد كالجسر بين ضفتي الساقية ليعبر عليه عواد الواقف ونجيب النجيب وهو يردد:
تقضي الرجولة أن نمد جسومنا جسراً فقل لرفاقنا أن يعبروا
وأخرى يرى نفسه أمام موظف تأشيرة المغادرة، وقد أعاد له الأوراق لأن هويته ليست مختومة بخاتم الانتخابات.
أفاق خميس على صوت المذياع، وقد ركزت أمه المؤشر على إذاعة القرآن الكريم، فكان أول ما لامس مسامعه:
"وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً".
* * *
في الطرف الآخر من القرية كان صوت عبد الحميد يلعلع بالشعارات والأشعار الحماسية، يدعو أهل القرية إلى الإدلاء بأصواتهم، لم يجد خميس في نفسه رغبة في التحول عن الفراش، فعاد وطمر رأسه تحت اللحاف، وكأن الأمر لا يعنيه.. وبعد أقل من ساعة جاء عبد الحميد يدعوه إلى الانتخاب، فاعتذر له وأعطاه هويته ليضع عليها الختم.
قال عبد الحميد وهو يرشف فنجان القهوة:
- الأمر خطير –يا خميس- فأهل القرية بكروا كعادتهم، وخرجوا إلى الحقول، والنسبة متدنية جداً، وكأن ما قيل ليلة أمس لم يلتفت إليه أحد..
قال خميس: وماذا يضركم هذا؟!
انتفض عبد الحميد كمن لسعته أفعى: كيف لا يضرنا؟ أتدري بماذا سيفسرون عدم الإقبال وما أثر ذلك على القرية؟
وقبل أن يسأله خميس قال: من رأى العبرة في غيره فليعتبر.
أولاً: سيحاسب جميع الرفاق على تقصيرهم، وسيتهمون بعدم استيعاب الجماهير الكادحة.
ثانياً: لن ترى القرية أي مشروع في المستقبل، ويمكن أن يحصل لها ما حصل لمدينة (التين والزيتون) التي عاقبوها بتحويل خط القطار الذي كان مقرراً أم يمر فيها بسبب احتفالها غير اللائق بمناسبة البيعة والتجديد..
وأردف عبد الحميد: القضية أخطر مما تتصور يا خميس؟!!
في هذه الأثناء أرسل رفيق لعبد الحميد بضرورة الحضور فوراً إلى مقر اللجنة، ولم يدر عبد الحميد بعد وصوله أن أحد الرجلين اللذين يلبسان لباساً مدنياً هو المقدم مسؤول الأمن السياسي، الذي طلب الاختلاء بأعضاء اللجنة، وحمّلهم مسؤولية رفع النسبة إلى 75% قبل الثانية والنصف، و90% في الرابعة و99% قبل إغلاق الصندوق.
هز أعضاء اللجنة رؤوسهم، ووعدوه بمضاعفة الجهد الثوري والتعبئة الجماهيرية؟!!
أحد الأعضاء وهو حديث عهد بالنضال قال:
- ولكن يا حضرة المقدم، أهل القرية في البساتين، ولا يعودون إلا مع غياب الشمس.
نظر إليه المقدم بتعال وقال: هذه مهمتكم، وليست مهمتي، والقرية قريتكم، والنتائج تنعكس عليها أولاً وأخيراً.
وعد "رفيق" المقدم خيراً وقال: سترون ما يسركم، فأهل القرية جميعاً بلا استثناء مع الخط الثوري الذي تنتهجه التقدراكية، وهم لا يرضون بغير القائد الرمز بديلاً..
تناول المقدم طعام الغداء الذي أحضره (عواد الواقف) من حساب الجمعية الفلاحية، وما إن غادر القرية مع عناصره، حتى أعلن رفيق إغلاق الصندوق، وبدء فرز الأصوات.. وفي جلسة مغلقة قال للأعضاء:
- كأن أهل القرية يريدون أن يسودوا وجوهنا عند قيادة الفرع؟!
قال عضو اللجنة الذي يحضر لأول مرة: وما العمل يا رفيق؟
ابتسم رفيق وقال: نعمل كما يعمل الآخرون في القرى المجاورة، وكما عملت اللجنة في الانتخابات السابقة، فنبيّض وجه القرية وننجح في مهمتنا، أليس كذلك يا رفيق عواد؟!
هز عواد رأسه، وأخرج قوائم الأسماء، وناولها لعبد الحميد قائلاً:
- أنت تقرأ الاسم وتشطب عليه، وأنا أضع ورقة في الصندوق.
ولم تمض إلا ساعة واحدة حتى كان عبد الحميد استعرض أسماء الأحياء والأموات والمغتربين، وأتخم الصندوق بالأوراق الموافقة.
قال العضو الجديد: لنبدأ الفرز.. فاستغرب الحاضرون وقال رفيق:
لماذا نتعب أنفسنا؟ فهل تظنون أن في الصندوق بطاقة واحدة غير موافقة؟
أجاب عواد: طبعاً لا يوجد!!
قال رفيق: إذاً النسبة معروفة، وأرى أن نخرج النتيجة، وأقترح أن يعلنها الرفيق عبد الحميد.
أحس عبد الحميد أن هذا آخر امتحان له، لينال مرتبة العضو العامل، فأمسك بالمكرفون وصاح:
- نداء.. نداء.. إلى أهل قرية "يا ظالم لك يوم" سنزف إليكم بشرى سارة بعد قليل، وهذه البشرى طالما انتظرتموها بفارغ الصبر..
وأتبعها بأغنية "يا عوازل فلفلوا" وبعدها ببيت من الشعر يحب عبد الحميد أن يردده بمناسبة وبغير مناسبة:
تقضي الرجولة أن نمد جسومنا جسراً فقل لرفاقنا أن يعبروا
نزف إليكم ما يلي:
بعد الفرز الذي قامت به اللجنة المحلفة تبيّن أن عدد الأصوات الموافقة بنسبة 99.99% وأنتم مدعوون لحضور الحفل الفني الذي سيقام بهذه المناسبة العظيمة في ساحة القرية في تمام الساعة العاشرة..
كان خميس يستمع إلى أخبار السابعة والربع التي استهلها المذيع قائلاً:
- شهدت محافظات ومناطق وقرى التقدراكية إقبالاً منقطع النظير على صناديق الاقتراع.. حيث جرت الانتخابات في جو من الحرية المسؤولة، والديمقراطية الواعية.. وتم فرز الأصوات بوجود لجان محلفة، فكانت نسبة البطاقات الموافقة (99.99%) هذا.. وقد أثبتت الجماهير أنها عند حسن ظن ناسج الحصيرة بها و.. و.. و..
* * *
انطلقت مكبرات الصوت تنقل وقائع الحفل الفني الساهر، وظل خميس قابعاً في منزله، وعلى الرغم من الصداع الشديد فقد استطاع أن يتابع بعض فقرات الحفل، حيث وقف العريف ليقول:
- الفن للشعب، الفن للنضال، هو الفن الصادق.
وراح يستعرض أسماء المشاركين والمشاركات، ففوجئ خميس بأسماء جديدة لم يسمع بها من قبل:
مطربة التسيير الذاتي تغريد صويصاتي..
الفنانة المكافحة شفيقة المسامحة.
عازف التأميم سمير أبو الهماهيم
فرقة الرقص الاشتراكي بقيادة عبود التقدراكي.
إلا أن المفاجأة الكبرى هي أن يكون عبد الحميد فقرة من فقرات الحفل، إذ انطلق صوت العريف ليقول:
- ومن كلمات الرفيق نجيب النجيب، وألحان الرفيق فايز أبو عيون كحيلة، نستمع إلى الرفيق عبد الحميد مع المجموعة في أنشودة بعنوان: "فرحة الجماهير".
لم يكن خميس يعلم أن عبد الحميد له صوت جميل، ولا يستطيع أن يصدق ذلك.. بينما انطلق عبد الحميد يصيح:
يانا.. يانا.. يا ناسج الحصيرة..
يا حا.. ياحا.. يا حامي المسيرة..
يا ناسج الحصيرة يا حاميَ المسيره
أنت للخبز ملحٌ أنت له خميره
أحس خميس بالصداع كأشد ما يكون، فأدخل رأسه تحت اللحاف وهو يقول:
مبروك يا عبد الحميد لقد أصبحت مطرباً، وستكون عضواً عاملاً!! ويالها من مكاسب؟!!
الحلقة الثانية عشرة
طرق عبد الحميد الباب في وقت متأخر جداً من الليل، وفوجئ به خميس يهمس:
- افتح الباب بهدوء، أريد أن أكلمك في أمر هام!!
فتح خميس، وأدخله إلى غرفته الصغيرة، وقد بدا عليه آثار الإجهاد والخوف. فقال:
- كنت في مدية "قزاز" مع رفيق في اجتماع هام وخطير، فقد وزعت المعارضة منشورات تعترض على التجديد لناسج الحصيرة، وأرسلني رفيق إليك لأخبرك أن حملة تفتيش وتمشيط كبيرة ستبدأ قبل شروق الشمس، وتشمل المنطقة كلها، فإذا كان عندك بعض الكتب التي لا تروق لرجال "رزايا الصداع" فإنه يرجوك أن تخفيها حتى لا تسبب لنفسك ولنا المتاعب، وتحمل القرية نصيباً منها..
أحس خميس بشيء من الخوف يدب في أوصاله، فقد تذكر ما قرأه عن حملات التفتيش في الصحف بالخارج، والعنت الذي يلاقيه المواطن لمجرد أن لديه مصحفاً في بعض الأحيان!!
قال عبد الحميد قاطعاً عليه شروده:
- وكذلك إذا كان لديك سلاح ولو بندقية صيد، أو ساطور كبير.. أنت لا تعرفهم –يا خميس- ولم تحضر التفتيش قبل هذه المرة!!
ركّز خميس ذهنه على موضوعات الكتب التي في حوزته، فلم يتذكر أن هناك ما يثير الانتباه، ويدعو إلى الشبهة، ومع ذلك أخرج ورقة وسجل أسماءها ليعرضها عبد الحميد على رفيق..
انطلق عبد الحميد مسرعاً باتجاه منزل رفيق، ولم يطل غيابه حتى عاد وهو يرتجف! فجعل خميس يهدئ من روعه وهو يقول:
- كنتَ ستخرب بيتنا وبيتك –يا خميس- لو أنك أبقيت هذه الكتب!
استغرب خميس وقال:
- وهل "رياض الصالحين" و"تفسير النسفي" و"سيرة ابن هشام" خطيرة إلى هذا الحد!؟؟
هز عبد الحميد رأسه بالإيجاب، وهو يبتلع ريقه بصعوبة: نعم يا أستاذ!!
خميس: عجيب!!
عبد الحميد (يخفض من صوته): لقد اعتقلوا أكثر الصالحين وما زالوا يتعقبونهم، فكيف تترك عندك رياض الصالحين؟
خميس: لم يخطر لي هذا على بال!
عبد الحميد: وكيف تترك عندك "تفسير النفسي" وكلمة نسف وحدها كفيلة بخراب البيوت!
خميس: إلى هذا الحد؟
عبد الحميد: وكيف تترك عندك "سيرة ابن هشام" التي يمكن أن تذكر بهشام ابن خالتك، الأمر الذي قد يؤدي إلى السؤال عنه من جديد، وإظهار القرية بأن فيها معارضين، مع أننا رفعنا نتائج الانتخاب في القرية مائة بالمائة موافقة؟!!
خميس: والله! ما تذكرت هذا..
عبد الحميد: اطمر هذه الكتب في الخربة القريبة، وخذ هذين الكتابين فاجعلهما في الواجهة..
وناوله كتاب "المنطلقات النظرية" و"قرارات المؤتمر الثالث عشر الاستثنائي".
نهض خميس وفعل ما أشار به عبد الحميد، ثم عاد إلى صندوق قديم وضع فيه بعض الكتب التي اشتراها أيام مراهقته.. فجعل ينفض الغبار عنها، وكان أكثرها صالحاً للقراءة من مثل "لا أنام" و"رُد قلبي" و"النظارة السوداء" و"طفولة نهد" و"قالت لي السمراء".
اطمأن عبد الحميد قليلاً ثم جعل يدير نظره في أنحاء الغرفة، فوقع بصره على صورة كبيرة لوالد خميس وهو يتمنطق بصفين من الرصاص، وعلى كتفه بارودة.. أدام النظر فيها طويلاً ثم قال: أين البندقية التي كانت عند أبيك؟
قال خميس: أهذا وقت المزاح –يا عبد الحميد- فهذه صورة قديمة للوالد –رحمه الله- يوم كان المستعمرون في بلادنا، وكان هو مع الثوار يقاتلهم.. ثم إن البندقية التي تراها في الصورة أكلها الصدأ، ولا أذكر أنني رأيتها!!
عبد الحميد: وإذا لم يصدقوا هذا الكلام؟!!
خميس: من هؤلاء؟؟
عبد الحميد: التفتيش –يا محترم- ربما طالبوك بها مع الطلقات التي معها.
خميس (وقد تغيّر لونه): والعمل؟؟
عبد الحميد: أخرِج الصورة من الإطار، وأنا سآتيك بصورة لناسج الحصيرة، حبيبي لا تنم في القبور حتى لا ترى أحلاماً مزعجة..
* * *
مع أول ضوء للشمس كانت السيارات العسكرية تحيط بالقرية من كل جانب، ومكبر الصوت ينادي على الأهالي ألا يخرجوا من منازلهم.. اتجه قائد الحملة إلى منزل رفيق، وسأله إن كان يشك في أحد أو يتصور أن في القرية معارضين للنظام!! فأنكر رفيق ذلك فأخرج الضابط قائمة تضم عدداً من الأسماء، وسأل عن هشام وهل له أقرباء؟؟
قال رفيق: ليس له سوى أم عجوز، وسأرسل لك في طلبها لتتأكد بنفسك.
- أين هشام يا عجوز؟؟
- ذهب للجامعة ولم يعد..
- لا تكذبي!! أنت تعرفين أين هو؟
- عيب يا ابني، أنا مثل أمك! فكيف تقول لي هذا الكلام؟!!
أطرق الضابط رأسه ثم قال: أين أبوه، أو أخوه؟
- ليس له أب ولا أخ..
- طيب.. اذهبي إلى بيتك، ونحن سنأتي للتفتيش.
وفي البيت سألها عن أغراضه، عن أوراقه، فأشارت إلى مكتبة بسيطة تضم كتبه الدراسية في كلية الطب.
- لماذا تحتفظين بها إلى الآن؟
- لعله يعود ويتابع دراسته..
ومد يده إلى كتاب متوسط الحجم، فجعل يتفحص أوراقه، ثم قذف به وهو يقول:
- لقد أتعبنا كثيراً طلاب الجامعات..
في منزل المختار وبعد تناول القهوة سأل الضابط عن إمام القرية فأخبره المختار بأنه معتقل منذ أكثر من سنتين.. قال الضابط:
من الذي يخطب الجمعة؟
فأجابه المختار: لا أحد.. ولكننا طلبنا من مدير الأوقاف أن يرسل لنا خطيباً ولو على حساب القرية، وقد راجعته قبل أسبوعين، فأخبرني أن الطلب تحت الدراسة، وسيرفعه إلى الوزير الجديد.
دخل أحد الرقباء وقال: سيدي.. انتهى التفتيش، والقرية نظيفة..
قال الضابط متهكماً: من كل شيء.. حتى من الإمام؟